عفو الله تعالى عن موسى عليه السلام لعظيم عبادته وإحسانه
وهذا الكلام من قوله: (ولكن... إلى قوله: وغيره)، منقول بنصه من مدارج السالكين، الجزء الأول (صفحة 328)، وعقب هذا الكلام يذكر شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله كلاماً لشيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ ليدلل به على كلامه المذكور؛ فيقول: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه...) يدلل على أن الذنب من هذا غير الذنب من ذاك، وهذا بين الأنبياء فكيف بمن كان صحابياً أو تابعياً، أو كان له عند الله تعالى منزلة، ويأتي من لا قيمة له فيجعل نفسه مثله؟! فالتفاوت بين هذا وهذا أعظم.
يقول: (انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله) وهو هارون، ولهذا قال: ((لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي))[طه:94] ((إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي))[الأعراف:150]، قال: (ولطم عين ملك الموت ففقأها) والحديث في الصحيح، لطم عين ملك الموت وقد جاءه بالحق، والله سبحان وتعالى إنما يبعثه ويرسله بالحق، ولا مناص ولا فكاك لأحد من الموت، ولكن نبي الله تبارك وتعالى موسى يلطمه! يقول: (وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه).
كيف لو بدرت هذه الأعمال من أحد؟! لو أن أحداً ألقى كلام الله، والله سبحانه وتعالى إنما أوحى إلى موسى أنه سيكرمه ويصطفيه: ((وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا))[الأعراف:155]، وذهب صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى حيث أراد الله سبحانه وتعالى، وصعد إلى الجبل، وكلمه الله تبارك وتعالى، وأوحى إليه الكتاب الذي هو التوراة، التي جعلها الله سبحانه وتعالى فاصلاً ومعلماً عظيماً بين عهدين كبيرين من عهود التاريخ الإنساني.
هذان العهدان -كما قال بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم- هما:
العهد الأول: عهد إهلاك الأمم، وقد أهلكت الأمم، ولم يكن لله تبارك وتعالى كتاب باقٍ محفوظ، فقد أنزلت الصحف على إبراهيم عليه السلام ولكنها لم تبق، وأما ما أنزله الله تبارك وتعالى على داود، وهو الزبور: ((وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً))[النساء:163] فإنما نزل بعد التوراة.
فبعد أن أنزل الله تبارك وتعالى التوراة لم يهلك أمة بأكملها، قال تعالى: : ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى))[القصص:43]، أي: القرون التي قبل التوراة، وهذه مرحلة عظيمة جداً لهذا الكتاب؛ ولهذا فإن فرعون أهلك قبل نزول التوراة؛ فقد أهلك أثناء خروج موسى عليه السلام وقومه من مصر، فلما عبروا البحر إلى الصحراء، ((فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ))[الأعراف:138]، وكانت القصة المعروفة التي قصها الله تعالى في كتابه الكريم.
ثم كانت دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة، ثم قولهم: ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ))[المائدة:24]، ثم ضرب عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض -عياذاً بالله-، وفي جبل الطور أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، وألقى إليه هذه الألواح -هذا الكتاب العظيم: التوراة-.
ولما عاد إلى بني إسرائيل، لم يكن يعلم أن الله قد فتن قومه من بعده، فلما علم بذلك ألقى الألواح من شدة الغضب، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، ولا شيء في الدنيا أعظم وأفضل من تلك الألواح؛ لأنها كلام الله عز وجل وكتابه الذي أنزله إليه.